الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

على هامش التّجديد !


 
الواقع الذي نعايشه يفرض علينا اتّباع أسلوبٍ معيّنٍ للعيشِ ومواكبة الأحداث ، وما يفرضه سيأتي مدعِّمًـا لمجرياتِه المتنوّعة ، وسيأتي ليكثّف المواقف المُتّخذة على مدار الأيّام والأشهر والسّنوات من طرفِ مختلف الفئات العُمريّة (المسيطرة) .. وفي مختلفِ المجالات.

ولكنّنا ومهما حاولنا أن نعيش بعيدًا عن الأحداث التي نسبح في فلكها كلّ يومٍ فإنّنا لن نستطيع ، والسّبب ببساطة هو اِنتماؤنا واِستحالة اِستقلاليّتنا على الواقع المجتمعيّ الذي نحن جزءًا منه ، ومهما حاولنا أيضا أن نؤثّر فربّما سنجد صعوبة بالغةً أو أنّنا سنصطدم بتأثيراتٍ أخرى تحول بيننا وبين ما نريد ، سواءً لقلّة عددنا أو لقلّة عتادنــا .. والعتاد المقصود هو العلميّ والفكريّ والتوعويّ والتّربويّ وحتّى العتاد المتمثّل في القوّة والحِكمة..

إذْ أنّ ما يفرضه علينا الواقع من اِتّباعٍ لأسلوبِ حياةٍ معيّنٍ يكون النّتيجة الحتميّة التي نصل إليها عند فشلنا في تحقيق التّأثير المطلوب لغيابِ المعاول الموضّحة سابقًا..

وبالتّالي قد يجد الفرد نفسه يقوم بأعمالٍ لا يفقهها ، أو يحمل شهادة جامعيّة لتخصّصٍ لا يرغبه ! ، وعندما تسأله يقول لكـ : " واقع العمل ببلدنا يفرض عليك أن تكون مهندسا أو طبيبًا أو أيّ شيءٍ ءاخر من أجل تأمين مستقبلكـ ! " .. وهذا هو النّاتج الذي تحدّثنا عنه سابقا ، لأنّه نابع عن عدم القدرة في التمسّك بما نريد ، وأن نبدع فيه حتّى نطوّره ليحتلّ درجة التّأثير في المجتمع ثمّ التّغيير ..

والتّغيير هنا سيأتي حتما بشيءٍ جديدٍ لم يكن من قبلُ ، سواء في عالم الأفكار أو الأشياء أو الأشخاص ، فالفكرة الجديدة التي يُعوّل عليها إذا أخذت نصيبها من التّجسيد ، تكون محلّ الاِعجاب أو التعجّب ، وتواجدها بين متناقضين قد يؤدّي بها إمّا إلى التّرسيخ أو إلى التّهميش ، وقِس على ذلك كلّ ما يتعلّق بالأشياء والأشخاص ..

فالشّيء الجديد بغضّ النّظر عن نوعيّته أو مجال اِستخدامه ، فإنّه سيتواجد هو الآخر بين متناقضين ، فيكون مصيره إمّا التّوظيف (باِستخدامه فيما ينفع المجتمع) أو التّوقيف (بوأدِه عند الأعداد الضّئيلة الأولى) .. ويبقى الأشدّ من ذلكـ كلّه هو عالم الأشخاص ، فالشّخص المُبدع المختصّ ، المحبّ لتخصّصه سيكون هو الآخر محلّ متناقضين ، فإمّا التّأثير (بتمسّكه وادراكه الجيّد لما يريد) أو التأثّر (وهو تخلِّيه على ما يريد من أوّل الطّريق وببساطة شديدة).

ويبقى هنا عالم الأشخاص هو المتحكّم ، لأنّه الذي يملك نقاط القوّة أو الذي يمتلك نقاط الضّعف ، فالفرق بين شخصٍ مؤثِّرٍ وءاخر متأثّرٍ هو الملكيّة الخاصّة للعتاد العلميّ والفكريّ والتوعويّ والتربويّ وحتّى العتاد المتمثّل في القوّة والحكمة..

فالله تباركـ وتعالى جاء في كتابه الكريم مخاطبًا الأشخاص بكلّ ما يحملونه من قلبٍ وعقلٍ وفكرٍ وحواسٍّ وبصيرة ، فلمّا قال تعالى : " وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتمْ مِن قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُون بِهِ عَدُوّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ... " الأنفـال آ (60).. جاء فعل الأمر يُخاطب الأشخاص ، يخاطبنــا نحن ، يخاطب كلّ شخصٍ مسلمٍ مؤمن صادف هذه الآية..

يخاطبنا بماذا ؟ بأن نُعدّ ، بل ويأمرنا بذلكـ ، على حدِّ قدرتنا واستطاعتنا ، فلا يكلّف اللهُ نفسًا إلّا وُسعها ، ماذا نعدّ ؟ ما هذا العتاد والعدّة التي طلبها ربُّنا تعالى منّا ؟ إنّها القوّة .. القوّة بكلّ معانيها ، الجسديّة والعقليّة والفكريّة ، القوّة بكلّ متطلّباتها ، وفي كلّ المجالات ، 'قوّة' جاءت هكذا نكِرة وليست معرِفة ، لتكون أعمّ وأشمل من أيّ شيءٍ ءاخر ، كي لا يتفلسف أحدٌ ويقول هي القوّة العسكريّة ، أو السّياسيّة أو الاِقتصاديّة .....

كلّ ما قد يُصنّف تحت مصطلح 'قوّة' فهو معنيّ ، كما أنّ كلّ من صادف هذه الآية فهو معنيٌّ أيضا .. 'ومن رباط الخيل' ، وقد يكون هنا المعنى أعمّ أيضا ، قد يتعدّاه لأيّ رباطٍ آخر ، فالرّباط هو الجهاد بمفهوم أشمل وأعمق ، هو التّضحية ، هو أيّ شيءٍ يعكس الفهم الجيّد والرّغبة المُطلقة..

'تُرهبون به عدوّ الله وعدوّكمـ' ، ولم يقل تٌخيفون ، فأن 'تُرهب' أكثر من أن تخيف ، أن 'تُرهب' هو أن تزعزع وتُزلزل ، أن 'تُرهب' هو أن تُخلط حسابات الطّرف الآخر ، أن تجعله يفقد رُشده وترتيبَ أفكاره ، أن 'تُرهب' هو أن تتحكّم أنت بالأمور فتسيطر عليها وتسيّرها .. أن 'تُرهب' هو أن تقلب موازين القوى لصالحكـ ، و تُعيد تركيب الواقع بحسب رؤيتكـ أنت !

'عدوّ اللهِ وعدوّكم' وهنا مربط الفرس ، المطلوب أن نعِي جيّدا من هم أعداء الله وأعداءنا ، أمّا المشركون فلا نقاش فيهم ، وأمّا المنافقون والظّالمون فكذلكـ ، ولكن وجب معرفتهم ، ومواجهتهم..

والواقع المرير هو الآخر عدوّ لنا ، لأنّه يعرقل حركتنا ونشاطاتنا ، ولأنّه يكبح محرّكاتنا فيمنعنا التقدّم ، و يُكسر منحنى نموّنا فيُبعدنا عن التطوّر ، ولأنّه يقف بوجه كلّ محاولة من أجل تحقيق النّهضة والحضارة ..

ذلك الواقع ، وبكلّ ما فيه من أشخاصٍ يَدعون للفساد فهو العدوّ الوحيد لنا حاليًّا ، وللتغلّب عليه وجب أن نُعدّ أنفسنا بعمقٍ ، أو أن نتهيّأ لمقاومتهِ بشدّة ، مقاومةٍ نستمدّها ونحقّقها اِنطلاقا من 'قوّة' نمتلكها ونديرها بشكلٍ جيّد..
'وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ' ، هنا الفضل الكبير أيضا ، أن تجد نفسكـ 'تُرهب' أعداءً لم تكن تعلمهم ، أشخاصًا لم تضعهمـ بالحسبان يومًا ، أن تجد نفسكـ تُنجز ما لا تتوقّع ، تُحزن وتُبكي من لم تتوقّع ، في تلكـ اللّحظة يُمكن لأعمالكـ أن تكون هي المُنجية لهذا الواقع (اليوم) والمُنجية لكـ حين تشفع لكـ (غدًا).

وهكذا .. فعالم الأشخاص هو الذي سيُنجب الفكرة ويصنع الشّيء، هو الذي سيُجهض كلّ تخلّف يمكن أن يتمخّضه الواقع ، عالم الأشخاص سيأتي بالجديد دومًا وسيحارب القديم..

ولكن .. ليس أيّ عالم ، ليست أيّة تركيبة ستقوم بالمهمّة السّابقة ، إنّه يجب من 'قوّة' وقبل القوّة ، نحتاج 'رغبةً' في اِمتلاك تلك القوّة ، ونحتاج 'رسالةً ساميةً' تكون محلّ توظيف تلكـ القوّة ، ونحتاج 'تشخيصًا' جيّدًا للواقع من أجل اِدراكِ أعداء تلكـ الرّسالة ، ومعرفة نقاط 'قوّتهم' أيضًا ونقاط 'ضعفهم'..

وما تبقّى من العوالم الأخرى فهو نتيجة ، نتيجة لشخصٍ جيّد ، يمتلك العدّة ، نتيجة لتركيبة وبنيةٍ متينة يُمكن التّعويل عليها ، فعالم الأفكار يأتي تِباعًا ليزيد الفردَ سموًّا وبالتّجسيد يتحقّق التّجديد ، وعالم الأشياء يأتي ناتجا عن ذلكـ التّجسيد ، وهو أكبر دليل عن التّجديد..

الأزمة كلّها أنّنا نعيش بهذا الواقع بطريقة عشوائيّة ، لا نُدركـ ما نريد ، ولا ما يُريد أعداؤنا ، ولا نُدركـ ما نملكـ من معطياتٍ ولا ما هو المطلوب منّا ، في هذا الواقع ، أزمتنا هي اللّا معرفة .. واللّا فهم..    وذلك ما جعلنا دومًا نعيش على هامش التّجديد أو لا نفكّر فيه أبدًا.
فاِدراك الاِنسان لما يجري حوله ، واعتقاده بقدرته على التّغيير تعدّ أوّل خطوة ستقوده لخوض تجربة التّجديد بعمقٍ ، وتحقيق التّغيير المُنتظر وفق أسس إصلاحيّة يحتاجها المجتمع.